عاش هذا الإمام في العصر الذهبي للحياة الإسلامية، سياسة وريادة للعالم.ومع ذلك فلم يخل ذلك العصر من الفرق المنابذة للسنة، كالخوارج والشيعة، والجهمية وغيرهم، واجتاحت كثيراً من الناس، وكان (نعيم بن حماد) أحد الذين ابتلوا بالتجهم (والتجهم نفي ما أثبته الله لنفسه من الصفات).ولكن أراد الله به خيراً، فاستنقذه من تلك الهلكة، بعد أن عرف الشر، وذاق مرارته.
وما أحسن حلاوة الحق بعد مرارة الباطل.حين قذف الله في قلبه نور السنة وبغض البدعة أحب الحديث، وشغف به، فطلبه على كبار أئمة الإسلام في عصره، ورحل إليه وإليهم، قاطعاً رقعة جغرافية مترامية الأطراف. شملت خراسان والحرمين والعراق والشام واليمن ومصر. ولا عجب فتلك كانت سمة بارزة لعامة طلبة الحديث الجادين في تحصيله في ذلك العصر.وقد جمع (نعيم بن حماد) برحلته وذكائه وجده حديثاً كثيراً، حتى كتب عن أحد شيوخه خمسين ألف حديث.
ومنّ الله عليه بصحبة أحد الغيورين على السنة، القامعين لأهل البدعة، فاستفاد من سيرته، ونشاطه وحماسه الشيء الكثير، مما كان له أكبر الأثر بعد ذلك في هدي حماد.ثم رحل إلى مصر واستوطنها، وبقي فيها أربعين عاماً، معلماً وإماماً في الحديث والفرائض والسنة.
وبعد أن رسخت قدمه في السنة ابتدأ في تنقية دين الإسلام مما دخل فيه من البدع والانحراف لا سيما في أبواب الأسماء والصفات، من تعطيل أو تشبيه، وبيان المعتقد الحق الذي ليس بعده إلا الضلال، وهذه رسالة خلفاء الرسل وورثتهم، تصفية الدين وتنقيته مما دخل فيه وليس منه، وبيان الدين الحق الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم صافياً نقياً.
بدأ رحلة الجهاد. ولا أعني جهاد السيف، بل ما هو أجل منه قدرا، وأعظم منه نفعاً، جهاد أهل الأهواء والبدع، بقلمه ولسانه، بعزم لا يكل، ونشاط لا يفتر، فألف في الرد على الجهمية وحدها ثلاثة عشر كتاباً. ثم التفت إلى مدرسة الرأي التي تقدم الرأي على الحديث فألف في الرد على إمامها الشهير رحمه الله. وكان صلباً في السنة، شديداً على مخالفيها.
وأراد الله أن يبتلي المسلمين بمحنة خلق القرآن على يد المعتزلة، حين استطاعوا أن يقنعوا بها المأمون، وأن يقنعوه بحمل الناس على بدعتهم بقوة السيف، وأمر المأمون بامتحان العلماء فمن أجابهم أطلقوه، ومن أبى حبسوه وعذبوه، وامتحن أئمة الأثر، فأجاب كثير منهم تقية، أخذاً برخصة الله للمكرهين،
وثبتت قلة على مبدئها ظاهراً وباطناً، وكان منهم نعيم بن حماد.وبعد هلاك المأمون سار المعتصم على دربه السيئ في امتحان العلماء، وجاء الدور على إمام مصر نعيم بن حماد ، فامتحنه والي مصر فأبى أن يجيبه لما يريد، فامتثل ما أمر به وقيده وحمله إلى العراق، فوصل سامراء وامتحن فثبت فأمر به إلى السجن.وطال بقاؤه في السجن بقيوده، وكأنما السجن لا يكفي قيداً،
وحين شعر بدنو أجله أوصى بأن يدفن في قيوده ، وقال (إني مخاصم) . يريد أن يقف بين يدي ربه يخاصم من آذاه في الله وظلمه بغير حق إلا أن ينـزه ربه عما لا يليق به.
وجاءه الأجل فلقي ربه في السجن ، ولما كان شجاً في حلوق خصومه من المبتدعة فقد تنفسوا الصعداء بموته، ورأوا أن ما فعلوه لم يشف لهم غيظاً، لذا عزموا أن يشتفوا منه ميتاً فماذا فعلوا؟جروه بقيوده، وألقوه في حفرة، وتركوه، فلم يغسلوه ولم يكفنوه ولم يصلوا عليه بل تركوه لسباع الأرض وهوامها
.نفضوا أيديهم، وكأنهم تباشروا بموته، وفرحوا بما فعلوا به من بعد، وحسبوا أن تلك هي النهاية.
ولكن القصة لم تنته بعد. إن الخصومة ستتم بين يدي مليك مقتدر. في يوم عظيم يعز الله فيه أهل السنة، ويخزي ويذل فيه أهل البدعة، جزاءً وفاقاً(وما ربك بظلام للعبيد).مات نعيم في سجنه سنة(229هـ) بعد أن مكث فيه سبع سنين كاملة فرحمة الله عليه وجزاه عن الإسلام والسنة خير الجزاء.
كتبه علي بن يحيى الحدادي
إمام وخطيب جامع عائشة بنت أبي بكر بالرياض